آثار الأولياء والسلاطين في نشر الإسلام في نوسانتارا


في أواخر القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر الميلادي، أصبحت السواحل الشمالية لجزيرة جاوة ساحةً هامة لانتشار الإسلام. في مدن الموانئ مثل غريسيك، ديماك، ديرمايو، تشيربون، وبانتن، بدأ نشاط الدعوة الإسلامية يزدهر بقوة. وقد تحوّلت الأنشطة الدينية، التي كانت في البداية مقتصرة على مجموعات صغيرة، إلى حركة ذات قوة اجتماعية وسياسية واسعة. وكان الأولياء، وهم شخصيات محورية في نشر الإسلام في جاوة، لا يعلّمون التوحيد فحسب، بل كانوا أيضاً يلعبون دوراً استراتيجياً في تشكيل نظام اجتماعي جديد.

بلغ هذا التحول ذروته مع قيام سلطنة ديماك، وهي أول مملكة إسلامية في جاوة. وقد كانت نجاحات ديماك في مهاجمة مركز قوة مملكة ماجاباهيت رمزًا للانتقال من العصر الهندوسي البوذي إلى العصر الإسلامي. لم تكن هذه مجرد انتصارات عسكرية، بل كانت منعطفاً هامًا في مسيرة أسلمة الأرخبيل. تولّت سلطنة ديماك، ومن بعدها سلطنة باجانج وماتارام، مواصلة جهود الدعوة الإسلامية التي بدأها الأولياء.

لم يقتصر انتشار الإسلام على جزيرة جاوة وحدها، بل امتد إلى مناطق أخرى خارجها مثل بنجرماسين، هيتو، تيرنات، تيدور، وحتى إلى لومبوك. وقد تمّ هذا الانتشار من خلال شبكات التجارة، والزواج السياسي، والدعوة، بطريقة سلمية تراعى فيها التقاليد المحلية. مما جعل الإسلام يُقبَل بسهولة وسرعة في مختلف المجتمعات في نوسانتارا.

كان دخول الملوك والنبلاء في الإسلام عاملاً حاسماً في انتشاره السريع. فعندما يُسلم الملك، يتبعه الشعب. ولم يكن هذا ناتجًا عن التأثير السياسي فحسب، بل أيضاً عن الشرعية الاجتماعية والثقافية القوية في المجتمعات التقليدية. فانتشر الإسلام من أعلى هرم السلطة وصولاً إلى عامة الناس.

ومن هنا وُلدت شخصيات فريدة تمثّلت في السلطان العالم. فهو الحاكم الدنيوي والزعيم الروحي في آنٍ واحد. وجمع السلطان بين السلطة السياسية والمكانة الدينية، فأنشأ نظام حكم يقوم على القيم الإسلامية دون أن يتخلّى عن الحكمة المحلية. وقد أصبح السلطان-العالم محوراً هامًا في ترسيخ الإسلام كقوة ثقافية وروحية.

وعلى الرغم من دخول القرن السادس عشر، لم تشهد الممالك الإسلامية في إندونيسيا تراجعًا كبيرًا في قوتها. بل ظل الإسلام جزءًا لا يتجزأ من حياة المجتمع، حتى مع بدء دخول الاستعمار الأوروبي إلى البلاد. ورغم ظهور شركة الهند الشرقية الهولندية (V.O.C) كتجسيد للاستعمار التجاري، فإن قوة الإسلام لم تُقضَ عليها.

لم يكن الانتقال من الحكم الإسلامي إلى السيطرة الهولندية مصحوبًا بإلغاء القيم الإسلامية في المجتمع. بل إن الحكومة الاستعمارية الهولندية احتفظت ببعض المؤسسات الإسلامية، مثل المحاكم الشرعية. فقد استمر عمل هذه المحاكم في مناطق عديدة، مثل آتشيه وجامبي وكاليمانتان وسولاوسي وسومطرة، رغم تبعيتها الإدارية لمحاكم الدولة الاستعمارية.

ويُظهر هذا أن الإسلام قد ترسّخ بعمق في النظام الاجتماعي والقانوني للشعب الإندونيسي. استمرت الحياة الدينية والطقوس والعادات القائمة على الشريعة الإسلامية في الازدهار، ولم يتمكن الاستعمار من محو هذا التراث المتجذر منذ قرون.

ويكمن سرّ قوة الإسلام في نوسانتارا في قدرته على التكيّف مع الثقافة المحلية دون فقدان جوهره. فقد استخدم الأولياء والفُقهاء الفنون، والأدب، والعمارة، والثقافة المحلية كوسائل فعّالة للدعوة. ولم يؤدِّ هذا إلى نشوء هوية إسلامية محلية فحسب، بل سهّل قبول المجتمع للإسلام.

وأصبحت المساجد مراكز لا للعبادة فقط، بل للتعليم والاجتماعات السياسية والتبادل الاقتصادي. وانتشرت المدارس الإسلامية التقليدية (البيسانترين) في أنحاء البلاد، فكانت حصناً للدفاع عن القيم الإسلامية ضد الاستعمار والتغريب. وكان الطلاب (السانتري) الذين تخرّجوا منها، محرّكين للوعي الفكري والروحي في مواجهة الاحتلال.

ووصل تأثير الإسلام حتى إلى الحياة الاقتصادية. فالقيم الإسلامية كالأمانة والعدل والصدق، شكّلت قواعد أساسية في نشاطات التجارة. وكان التجار المسلمون لا يمارسون التجارة فقط، بل أيضاً يدعون إلى الإسلام من خلال تفاعلهم اليومي مع المجتمع.

ولا يمكن إغفال دور الأولياء في بناء أساس متين للحياة الإسلامية. فهم كانوا الجسر بين الإسلام القادم من الخارج والتقاليد المحلية الراسخة. وقد مثّلوا شخصيات تغييرية، لا يقدّمون فقط دينًا جديدًا، بل مفهوماً جديدًا للحياة.

لقد أصبح الإسلام في إندونيسيا نسخة محلية فريدة، ناتجة عن تفاعل طويل بين تعاليمه العالمية والثقافات المحلية. ولهذا أصبح الإسلام في نوسانتارا معتدلاً، متسامحاً، وسلمياً. وقد أثبت هذا الطابع قدرته على الصمود أمام تحديات العولمة والتيارات الفكرية المختلفة.

ولعبت الممالك الإسلامية دورًا في الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي في مراحل التحول نحو الاستعمار. وكان السلاطين بمثابة توازن بين طموحات الشعب وضغوط القوة الأجنبية. وفي كثير من الأحيان، أصبحوا رموزًا للمقاومة ومُدافعين عن الدين والتراث.

وفي عهد الاستعمار، لم ينجُ الإسلام فحسب، بل تقوّى أيضًا. بدأت الحركات الإسلامية الإصلاحية تنتشر، مما دلّ على وعي فكري واجتماعي متجدد بين المسلمين. وبدأ العلماء في كتابة الكتب، وعقد المناقشات، والتواصل مع العالم الإسلامي. وظهرت دعوات لتجديد الإسلام وفقًا للواقع الحديث دون التفريط في الأصالة.

وقد أثبت التاريخ أن الإسلام في إندونيسيا لم يكن قوة سهلة الكسر أمام الاستعمار، بل في ظلّ الضغوط، وجد هويته الحقيقية. وتزايدت الروح التضامنية بين المسلمين، فكان الإسلام أحد الأعمدة الرئيسية في الكفاح من أجل الاستقلال في القرن العشرين.

وما تزال آثار الأولياء والسلاطين والعلماء ملموسة إلى اليوم. فقد تركوا نظاماً من القيم، وثقافة غنية، وإرثاً ملهماً. من غريسيك إلى تابانولي، ومن سلطنة ديماك إلى البيسانترين الحديث، يظل الإسلام نابضًا في حياة الشعب الإندونيسي.

وتُعدّ هذه المسيرة التاريخية برهاناً واضحاً على أن الإسلام جزء لا يتجزأ من هوية الأمة. ليس فقط كدين الأغلبية، بل كقوة صنعت الحضارة وكتبت فصولًا مشرقة في تاريخ نوسانتارا.

آثار الأولياء والسلاطين في نشر الإسلام في نوسانتارا آثار الأولياء والسلاطين في نشر الإسلام في نوسانتارا بواسطة Admin2 on أبريل 20, 2025 Rating: 5

ليست هناك تعليقات